القِديس يوحنا ذهبي الفم
لجأت وطني للعلماء والباحثين في مجال التاريخ ومن هذه النخبة الدكتور رامز ميخائيل الحاصل على درجة الدكتوراه في اللاهوت واللتيورچية من جامعة فيينا، النمسا والباحث في قسم الليتورچيا في جامعة ريجينسبورج، المانيا، ليشرح لنا بعض ملامح طقس التناول في العصور المسيحية الأولى والتراث القبطي.
يقول الدكتور رامز ميخائيل: ازداد الاهتمام في الآونة الأخيرة بسر التناول في التقليد المسيحي، وبالأخص بطريقة توزيع الخبز والخمر “الإفخارستيا”، اللذان هما جسد المسيح ودمه حسب إيمان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وهذا الاهتمام من قبل المجتمع المسيحي يعود إلى “وباء كورونا” المنتشر في العالم والذي أسفر عن إلغاء الصلوات الجماعية في كنائس مصر والعالم منذ شهور. وهو ما أدى إلى مناقشات كثيرة في الأوساط الكنسية لبعض الممارسات التقليدية التي تمارس في إطار الصلوات الطقسية والتي من الممكن أن تساعد على انتشار المرض بين المصلين، مثل مصافحة الأيدي في وقت القبلة المقدسة أوتقبيل الأيقونات، إلى جانب طريقة التناول من سر الإفخارستيا.
بواقع الحال يدور جزء كبير من هذه المناقشات حول البُعد التاريخي، والذي يهتم ببحث أصول الممارسات الطقسية في المصادر التاريخية من كتابات أباء الكنيسة، وكتب التاريخ، والمخطوطات الطقسية. وفيما نثق جميعًا في حكمة القيادة الكنسية في اتخاذ القرارات المناسبة في كل مكان وزمان، أود أن أقدم بعض المعلومات التاريخية عن تطور طقس التناول في الكنائس الشرقية عامًة والكنيسة القبطية الأرثوذكسية خاصًة لنشر التوعية بهذا الموضوع المهم في تاريخ الكنيسة الطقسي. فان المعرفة المتكاملة والموضوعية لحقائق التاريخ تشكل بُعداً مهمًا وحساسًا في النقاش الحالي، كما يجب أن أؤكد أن البُعد التاريخي هو في النهاية أداة واحدة في أيدي الكنيسة لمواجهة التحديات الراهنة وليس الاعتبار الوحيد في الموضوع، لذلك لا يجب ان يُتخَذ التاريخ بمعزل عن الأبعاد الأخرى لهذا الموضوع، مثل البعد اللاهوتي، والرعوي، وحتى الانساني، وهي الأبعاد التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار كلما نوقِش أي تغيير محتمل في تفاصيل العبادة الطقسية الجماعية، والتي تمثل جانبًا مهمًا ومألوفًا في حياة الشعب القبطي.
الممارسات الطقسية في القرون الأولى
هناك نقاط كثيرة في تاريخ الممارسات الطقسية في الكنيسة الجامعة في القرون الأولى تختلف عن الطقس المستقر حاليًا. فقد أخذت الكثير من الملامح الطقسية وقتًا ليس بالقليل حتى تستقر وتتقنن بالشكل المتعارف عليه الآن في الأوساط الكنسية. فتجمع المصادر التاريخية بوجه عام على أنه في الكنيسة الأولى وحتى القرن التاسع الميلادي في بعض الأماكن، كان يُعطي الجسد في أيدي الشعب للتناول منه ويتبعه تناول القليل من الدم المقدس من الكأس مباشرة، أي بدون استعمال ملعقة.
من أشهر هذه المصادر في هذا الأمر، يكتب القديس كيرلس الاورشليمي (تنيح عام ٣٨٦م) في عظته الخامسة عن أسرار الكنيسة وعن التقدم للتناول تحديدًا: “لا تأت برسغيك ممدودتين أو أصابعك منفردة، لكن اجعل يدك اليسرى عرشًا ليدك اليمنى، كأنك تستقبل ملكًا” (Myst. Cat. 5:21).
لم يوضح القديس كيرلس كيفية تناول الدم، فكتب آمرًا ألا يمد المتناول يده ليتناول الدم، بل لينحني قليلًا ويقول “أمين”، مما يدل على أن المتناولين كانوا يُعطوا الكأس بدلًا من أن يأخذوه بأنفسهم. على أي حال، لم يشر كيرلس الاورشليمي في تعليماته الدقيقة هذه إلى استعمال ملعقة مكرسة للتناول.
هذه الملاحظة تدعمها أيضًا الكثير من الإشارات في عظات القديس يوحنا ذهبي الفم، رئيس أساقفة القسطنطينية في القرن الرابع (تنيح عام ٤٠٧م)، مثل عظاته عن إنجيلي القديسين متى ويوحنا، ورسالة بولس الرسول إلى أفسس، وعظته عن ميلاد المسيح. ولعل أكثر هذه الإشارات وضوحًا بالنسبة لتناول الشعب الجسد في اليد مباشرة هو قوله للمتعمدين الجدد، “تأمل جيدًا ما الذي تأخذه في يدك ولا تجسر أبدًا ان تضرب أحدًا” (Ad illuminandos catech. 2.2; PG 49:233–4).
إن الأدلة التاريخية في المصادر المصرية خاصة ليست بالكثيرة، ومع هذا يمكن الاستشهاد بقصتين تعطيان إيحاء أن المتناولين في كلا الموقفين كانوا يعتادون استقبال الجسد في راحة اليد. الأولى قصة من القرن الخامس الميلادي تقريبًا مدونة في عمل يسمى “تاريخ الرهبان” (Historia monachorum)
ينسب إلى الكاتب المعروف “روفينوس”، وتحكي هذه القصة عن الرهبان الساهرين في الصلاة في الكنيسة والتي تنتهي بالتناول قبل شروق الشمس وكيف كانت الشياطين تحاربهم في هذا الاجتهاد الروحي والجسدي، فيقول النص، “عندما بسطوا أياديهم لتناوله (أي الجسد)، أسرع الشياطين لبعضهم ووضعوا في أياديهم جمرًا مشتعلًا” (Historia monachorum 23.1; Russell, The Lives of the Desert Fathers, 154).
والقصة الثانية مدونة في مخطوط من دير القديس أبو مقار بوادي النطرون (Codex Tischendorff XXIV, frag. 2, Cairo 104)، نقرأ فيها عن معجزة تتعلق بالإفخارستيا، وهي عندما أقبل شاب وثني للقداس للتناول خلسة مع جموع المسيحيين – وهو الأمر غير المسموح به، ولكن عندما نظر الجسد، “وجد أنه أخذ شكل ابن الانسان في يده”، الأمر الذي أدى في النهاية إلى اعتناق الشاب للمسيحية. بالرغم من أن هذه القصص المعجزية يصعب إثباتها كحقائق تاريخية، ولكن الهدف من طرحها لفت النظر إلى الممارسة الشائعة في زمان ومكان تداولها، لأن تداول هذه القصص في المجتمع المسيحي آنذاك كان يعتمد بالضرورة على صحة تفاصيلها المعتادة والتي تمثل جزءاً من الخبرة اليومية لسامعيها، مثل طريقة التناول على سبيل المثال.
بالإضافة الى هذا، توجد العديد من الإشارات المماثلة في كتابات الآباء في الشرق المسيحي والتي تحتوي نفس المضمون، وهو شيوع أخذ الجسد في راحة اليد، وليس في الفم كما هو متبع الآن في الكنيسة القبطية. فمثلًا يذكر الأب “روبرت تافت” الكثير من النصوص الآبائية المرتبطة بهذا الأمر من كتابات ثيودوروس المصيصي (ق. ٤)، مار نرساي السرياني (ق. ٥)، مارفيلوكسينوس المنبجي (ق. ٦)، يوحنا الدمشقي (ق. ٧-٨)، وغيرهم. وبالرغم من أن بعض هذه المصادر ترجع إلى شخصيات غير معترف بها كقديسين في الكنيسة القبطية، إلا أن الهدف هنا هو توثيق الممارسات الطقسية في زمانهم ومكانهم، وليس الاستشهاد بها كمصدر سلطة روحية أو لاهوتية على وجه التحديد.
الأب روبرت تافت
أما بخصوص التناول من الكأس، وهو الموضوع الأكثر أهمية في وقتنا الحالي، فأغلب الأدلة توجد في عظات القديس “يوحنا ذهبي الفم” والتي تشير الى الطقس الممارس في كنيسة القسطنطينية في القرن الرابع. فمثلًا يقول القديس يوحنا أكثر من مرة لشعبه: “إن الله يدفع الكأس المرهوبة إلى يدك” (Ad illuminandos cat. 1.1, PG 49:223).
من ناحية أخرى، هناك الكثير من الملاعق المعدنية التي تم اكتشافها في منطقة أنطاكيا وسوريا عامًة، والتي يعود الكثير منها إلى القرنين السابع والثامن، ولكن من الصعب الجزم إن كانت هذه الملاعق دائمًا تمثل ملاعق مخصصة لتناول الدم والمعروفة في الكنيسة القبطية بـ “المستير“، فإنه من الممكن أن تكون لهذه الملاعق استخدامات أخرى سواء طقسية أو غير طقسية. ولكن على كل حال يوجد عدد قليل من هذه الملاعق تم اكتشافها ضمن كنوز تنتمي إلى كنائس أثرية والتي تم التبرع بها مع كاسات للتناول، الأمر الذي يمكن معه التكهن بأن هذه الملاعق كانت تستخدم في إتمام طقس الإفخارستيا بشكل أو بآخر، بالرغم من انه يصعب التأكيد على طبيعة هذا الاستخدام على وجه التحديد.
Chapter 1 Early Byzantine Church Silver Communion Set
والجدير بالذكر إن أقدم إشارة مؤكدة لاستخدام ملعقة في التناول ترجع إلى منطقة أورشليم في القرن السادس، حيث نقرأ في “معجزات القديسين كيروس ويوحنا”، وهو عمل يوناني منسوب إلى “صوفرونيوس” بطريرك أورشليم للروم، عن واقعة مناولة شخص مريض حيث يتواجد الجسد والدم معًا في الكأس، مما يدل على ضرورة استعمال ملعقة ما لتناول الاثنين معًا، كما هو متبع حتى يومنا هذا في الطقس البيزنطي (Narratio miraculorum Ss. Cyri et Iohannis, PG 87:3457).
نجد هذا أيضًا في نص يوناني آخر معروف بقصص “القديس انسطاسيوس السينائي” (ق. ٨)، والتي تدل على الطقس الأنطاكي، حيث نقرأ عن قصة تناول القديس الذي كان يعيش متوحدًا في مكان أو عمود مرتفع، ويذكر النص أنه في وقت التناول رفع الكهنة والخدام الحاضرين الكأس وملعقة معًا إلى قمة العمود لكي يتناول القديس المتوحد
(Narrationes utiles animae 43)
ويشهد أيضًا التقليد السرياني الأرثوذكسي على بداية انتشار الملعقة للتناول، فيكتب “المطران يوحنا” أسقف دارا (ق. ٩) في مقالته عن القربان، “لماذا نضع ملعقة على مائدة السر (أي المذبح)؟ فالملعقة ترمز إلى الروح القدس الذي من خلاله نستقبل جسد الله الكلمة” (De oblatione 2.28; CSCO 308, p. 38).
ويؤكد أيضًا “ابن العبري” في القرن الثالث عشر أن في وقته كان السريان النساطرة هم الوحيدون الذين لا يستخدمون ملعقة في طقس التناول، مشيرًا أن مع مجيء القرن الثالث عشر أصبحت الملعقة المقدسة أو “المستير” جزءًا راسخًا في تقليد معظم الكنائس الشرقية.
ومن الملاحظ أنه حتى أوائل العصور الوسطى كان يتم إعطاء جسد السيد المسيح في أيدي المتناولين مباشرة، بينما كانوا يتناولون الدم مباشرة من الكأس بدون ملعقة. وقد ساد هذا الوضع في الظروف العادية، أي تناول المؤمنين معًا في إطار القداس الالهي. ولكن بدأت الملاعق بالظهور أولاً في الظروف غير الليتورجية (على سبيل المثال تناول المرضى في بيوتهم وتناول النساك المتوحدين، الخ). بحلول القرن السابع في فلسطين، بدأت الممارسة القديمة بالتغير نحو استخدام الملعقة بشكل عام وليس فقط كاستثناء، مما يمثل بداية التغير النهائي في الطقس القديم للتناول إلى ما هو معروف الأن في الكنائس الشرقية عامة والكنيسة القبطية خاصة.
المستير في التقليد القبطي
أما بالنسبة للمستير في التقليد القبطي، فهو معروف على الأقل منذ الألفية الأولى. وتعرف هذه الملعقة الطقسية الآن بـ”المستير”، وهي كلمة يونانية الأصل تعني ملعقة صغيرة (μύστρον)
وليس كما هو متداول نسبة لكلمة “ميستيريون” أي “سر” بالقبطية واليونانية. ونجد هذا التعبير بصيغة الجمع، أي ميسترا (μίστρα) في بردية من القرن السابع أو الثامن،
(P. Leiden Inst. 13) تحتوي قائمة بممتلكات كنيسة أثرية، مما يدل على استخدام هذا المصطلح من هذه الفترة، ولو لم يدل بالتحديد على استخدام مثل هذه الملعقة للتناول. ولكن في غضون نفس الحقبة الزمنية، نجد أن المستير أصبح معروفًا كأداة من ضمن أدوات أو أواني المذبح المقدسة، على الأقل في صعيد مصر. فمثلًا نجد رسمًا جداريًا من القرن الثامن في دير القديس بشاي المعروف بالدير الأحمر بالقرب من سوهاج، يمثل ملاكًا يحمل أوانٍ للمذبح، وبالتحديد صينية وكأس وحامل للكأس وملعقة، مما يدل بشكل واضح على ارتباط جميع هذه الأشياء بطقس الإفخارستيا والتناول.
رسم جداري من الدير الأحمر بسوهاج، حوالي القرن الثامن
ويشابه ذلك ايضًا كتابة جدارية في صورة رسم اكتشفت في أوائل القرن العشرين في دير أنبا ابوللو الأثري في منطقة باويط. والذي يعود للفترة ما بين القرنين السادس والثامن. (للأسف لم يبق هذا الرسم لوقتنا هذا) ولكن قام العالم الفرنسي چان كليدا (Jean Clédat) بنشر رسم يدوي لهذا الأثر الجداري في تقريره عن اكتشافات باويط، والذي فيه نرى ما يبدو أن يكون كاهنًا يناول شخص ما من الكأس باستخدام مستير.
جرافيتي، دير انبا ابوللو، باويط، حوالي القرن ٦-٨
والجدير بالذكر أن الرسومات الدينية الجدارية غالبًا ما تمثل أوضاعًا نمطية وتقليدية من وجهة نظر مشاهديها في كل حقبة وزمن، أي أنه من المحتمل جدًا أن المستير كان بالفعل أداة معتادة بالنسبة لأهل سوهاج وباويط عندما قرر الفنان القبطي رسم منظر التناول على جدران الأديرة المذكورة.
الألفية الثانية وتطور التقاليد القبطية
ومع مجيء الألفية الثانية نجد أن استخدام المستير في التقليد القبطي أصبح هو أيضًا تقليدًا راسخًا مثل باقي كنائس الشرق المسيحي. فيذكر المستير مثلًا في عمل مجهول المؤلف يسمي “ترتيب الكهنوت”، يؤكد فيه الكاتب أن الشعب يتناول بالمستير فيما يتناول الإكليروس من الكأس مباشرة.
يظهر أيضًا المستير بشكل واضح في الكتابات العربية الأخرى عن الطقس القبطي، أمثال “مصباح الظلمة” للقس أبو البركات ابن كبر (ق. ١٤)، و”الجوهرة النفيسة” ليوحنا ابن سباع (ق. ١٤)، و”الترتيب الطقسي” الذي تم اعداده وتعميمه بإشراف البابا غبريال الخامس (تنيح عام ١٤٢٧م).
وبالتالي نجد أن استعمال المستير في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية يرجع إلى القرن الثامن على الأقل، إن لم يكن قبل ذلك، مع العلم أن الرسوم الجدارية لا تشير إن كان المستير يستعمل لإعطاء الدم فقط كما هو متبع الآن أم لإعطاء الجسد والدم معًا.
ومن الملاحظ ايضًا أن جميع المصادر التاريخية لا تتطرق للسبب الذي أدى إلى استحداث طريقة التناول بالمستير. ربما كان هذا على سبيل التسهيل على الأب الكاهن والشعب، خاصة في الأماكن التي كانت بها أعداداً كبيرة من المتناولين مما قد يتسبب في استغراق التناول فترة زمنية كبيرة أو حتى نفاذ الدم إن لم يستخدم الكاهن ملعقة للتحكم في كمية الدم المعطاة لكل متناول.
إذا فمع مرور الزمن وتكاثر أعداد المسيحيين في المدن الكبيرة، كان من الطبيعي أن تفضل القيادات الكنسية (الأسقف أو المطران) في مكان بعد الأخر استخدام ملعقة للتحكم في عملية التناول، لتفادي أي حادث انسكاب وللتأكد من إعطاء كل متناول جرعة قليلة فقط من الدم الكريم.
المستير
عادة الجسد مغموس في الدم
ونجد ايضًا عادة إعطاء الجسد مغموسًا في الدم بالمستير موثقة منذ قرون بعيدة، فيعطي “الترتيب الطقسي” للبابا غبريال الخامس الاختيار للكاهن أن يناول الشعب بهذه الطريقة بدون تحديد السبب الذي قد يجعل الكاهن يفعل هذا.
والجدير بالذكر أن كتاب “الترتيب الطقسي” كان بمثابة محاولة للبابا غبريال مع أساقفة وعلماء ذلك الزمن لتوحيد وترتيب الطقوس الكنسية لجميع القساوسة في وقته. ومن الواضح أن هذه المبادرة نالت نجاحًا كبيرًا في توحيد الطقوس، فنجد أن الكثير من مخطوطات “الخولاجي” التي نسخت بعد عصر البابا غبريال تنقل نص هذا العمل حرفيًا في شكل تعليمات طقسية للكاهن الذي كان يستعمل كتاب “الخولاجي” في ممارسة القداس الإلهي.
ولذلك نجد أن الطقس السائد الآن في الكنيسة القبطية من جهة الممارسات الدقيقة للكاهن خلال القداس ترجع في الأصل إلى التفاصيل الطقسية التي اختارها البابا غبريال ومن ساعده لإدراجها في كتاب “الترتيب الطقسي”. ولهذا نجد أن عادة إعطاء الجسد مغموسًا في الدم، وهي الممارسة السائدة لهذا اليوم في مناولة المرضى او المسجونين، الخ.. مذكورة أيضًا بكل وضوح في “خولاجي القمص عبد المسيح صليب البرموسي” الذي نُشر عام ١٩٠٢م، حيث يشير الأب العلامة ناشر الخولاجي أن في حالة مناولة الجسد والدم معًا يقول الكاهن: ” الجسد والدم الذي لعمانوئيل إلهنا. هذا هو بالحقيقة امين.” (الخولاجي، ص ٤١٦). هذا بدون أن يشير “الخولاجي” – والذي يمتاز بدقة متناهية في شرح وتوثيق الطقوس ترجع إلى علم ونبوغ القمص عبد المسيح البرموسي – إلى أن هذه الممارسة تقتصر فقط على مناولة المرضى أو في خارج نطاق القداس.
والجدير بالذكر أن هذا الخولاجي الفريد من نوعه والذي اعتمد القمص عبد المسيح في إعداده على ٣٢ من مخطوطات الخولاجي الأثرية من أديرة وادي النطرون والبطريركية وطبعات الخولاجي السابقة، يعتبر المصدر الرسمي في الكنيسة القبطية لطقس القداس الإلهي بحسب قرار المجمع المقدس في جلسته بتاريخ ١٤ يونيو ١٩٩٧، والذي يؤكد فيه على ضرورة التزام جميع رجال الكهنوت بمصر بنصوص هذا الخولاجي الفريد.
خولاجي القمص عبد المسيح صليب البرموسي
ولكن ربما أهم ما في هذه الجولة عبر المصادر التاريخية، هو أن كل ما حدث من تغيير في وسائل طقس التناول تم على الأرجح بشكل تدريجي وبغير قرار مركزي، بواسطة بطريرك الإسكندرية أو المجمع المقدس في فترة ما، على الأقل حسب المصادر المتاحة حتى الأن، لأنه من المعروف أن الكثير من الممارسات الطقسية العملية والتي لا تمس جوهر الإيمان والأسرار الكنسية كانت تختلف من مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر بدون الحاجة في أكثر الأحيان إلى توحيد شامل على جميع إيبارشيات وأنحاء الكرازة المرقسية في وقت واحد.
هذا بالطبع ليس هو الوضع الآن، في زمن كثر فيه التنقل والاختلاط بين أبناء الكنيسة من شرقها إلى غربها مما يشكل حاجة مهمة لتوحيد الطقس الكنسي بقدر الإمكان وتفادي الاختلافات التي قد تؤدي إلى العثرة أو الاضطراب، ولكن لا يزال التاريخ كما استعرضناه هنا دليلًا على أن طريقة التناول في حد ذاتها لم تكن تعتبر من جوهر سر الإفخارستيا، بل من الأرجح أن استعمال المستير كان لأسباب عملية بحتة لم تعتبر مساسًا بسر التناول أو بتقليده الكتابي والآبائي.
ولعل هذه الجولة المختصرة في تاريخ وتراث الكنيسة تساعد على فهم أفضل وأكثر تكاملًا لهذا الجانب من طقس التناول وتاريخ تطوره في الشرق بشكل عام وفي كنيستنا القبطية بشكل خاص.
** المراجع
المخطوطات
- Abū al-Barakāt ibn Kabar: Paris BnF Ar. 203 (AD 1363–1369), fol. 206r.
- Yūḥannā ibn Sabbā‘: Paris BnF Ar. 207 (14th c.), fol. 171r.
- Pope Gabriel V: Paris BnF Ar. 98 (17th c.), fol. 70v.
الدراسات
- – ‘Abdallah, A. L’ordinamento liturgico di Gabriele V, 88o Patriarca Copto (1409–1427). Cairo, 1962.
- – Assfalg J. Die Ordnung die Priestertums. Cairo, 1955.
- – Bolman, E.S. “The Red Monastery Conservation Project, 2006 and 2007 Campaigns: Contributing to the Corpus of Late Antique Art.” In Christianity and Monasticism in Upper Egypt, ed. G. Gabra and H.N. Takla, 1:311. Cairo, 2008.
- – Clédat, J. Le monastère et la nécropole de Baouit. Vol. 2. Cairo, 1916.
- – Evelyn White, H.G. The Monasteries of the Wādī ’N Natrūn. Vol. 1. New York, 1926.
- – Mikhail, R. The Presentation of the Lamb: The Prothesis and Preparatory Rites of the Coptic Liturgy. SECL 2. Münster, 2020.
- – Mistrīḥ, V. Pretiosa margarita de scientiis ecclesiasticis. Cairo, 1966.
- – Nau F. “Le texte grec des récits utiles à l’âme d’Anastase (le Sinaïte).” Oriens Christianus 3 (193): 56–90.
- – Russell, N. The Lives of the Desert Fathers. CSS 34. Kalamazoo, MI, 1980.
- – Schmelz, G. Kirchliche Amtsträger im spätantiken Ägypten. Munich, 2002.
- – Taft, R.F. “Byzantine Communion Spoons: A Review of the Evidence.” Dumbarton Oaks Papers 50 (1996): 209–238.
- – Taft, R.F. A History of the Liturgy of St. John Chrysostom. Vol. 6, The Communion, Thanksgiving, and Concluding Rites. OCA 281. Rome, 2008.
No comments:
Post a Comment